تستند تركيا لعدة مبررات لغزو منطقة شرق الفرات، منها تطهير المنطقة من وحدات حماية الشعب الكردي حيث تعتبرهم مجموعة إرهابية وامتداداً لحزب العُمال الكُردستاني، وترى ضرورة الحد من حصول الفصائل الكردية على أي من المقومات التي قد تعزز قدراتها العسكرية والمادية على الأرض، بالإضافة الى تجريدها من المكاسب السياسية التي حصلت عليها خلال السنوات الأخيرة، وبالتالي منع قيام أي كيان كردي مجاور للجغرافيا التركية.
وتزعم تركيا أنه من أهداف هذه العملية أيضاً توفير مكان آمن لإعادة توطين مليونين من العرب والتركمان والإيزيديين والكلدانيين السوريين ونقلهم من تركيا إلى منطقة شمال شرق سوريا. الجدير بالذكر أن بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية في تركيا الصيف الماضي وما يرتبط بها من ضغوط على سوق العمل والضغوط الاقتصادية الأمريكية، بات الأتراك يرغبون برحيل كل ما هو سوري وبأسرع وقت ممكن. كما استخدم أردوغان أزمة اللّاجئين كورقة ابتزاز ضدّ الدّول الأوروبيّة، وفي عام 2015 بالتحديد سهل وصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ، واضطرّت معه أوروبا إلى دفع حوالى 3 مليارات دولار إلى الحكومة التركيّة مقابل إغلاق الحدود أمام تدفّق البشر إلى عمق أوروبا.
وبفرض أجندتها السياسيّة تمكنت تركيا من تحويل الثّورة السّوريّة إلى أزمة دولية ثم حرب أهليّة وطائفيّة مذهبيّة، ما أدى لاستفحال موجة التطرّف، وتحول سوريا إلى ساحة تعجُّ بكافّة أشكال العناصر المتشدّدة القادمة من العالم. أردوغان اليوم يتربع على زعامة التنظيمات الإسلامية في العالم على مختلف توجهاتهم وفصائلهم، فهو يدعم تنظيم الإخوان ويقف معهم ضد الدولة الوطنية كما هو المشهد السياسي في مصر وليبيا وسوريا والصومال وتونس، ويدعم جميع الفصائل الجهادية والتكفيرية كداعش والقاعدة مهما ارتكبت من عمليات إرهابية عنيفة ومهما آمنت بالفكر المتطرف، فهي تمثل حصان طروادة نحو وهم زعامة النيوعثمانية أو الدولة العثمانية الجديدة. وبالمقابل تؤمن هذه الفصائل والتنظيمات أنه لا يمكن لقوة أخرى أن تقود «الجهاد المقدس» في سوريا غير تركيا والتي تمتلك قدرات عسكرية تؤهلها لذلك، بالإضافة الى دوائر مشتركة كثيرة تجمع الطرفين تحت سقف واحد.
هناك عدة آثار ونتائج خطيرة لهذا العدوان ومن أهمها:
أولاً: القوات التي دفعت بها تركيا إلى شمال شرق سوريا، ونبرة الخطاب السياسي المرتفعة الرافضة لتسليم المنطقة لقوات نظام بشار الأسد، بالإضافة إلى تعهد أردوغان بتنمية المنطقة، مجموعها يشير إلى وجود تركي مستمر في المنطقة وقابل للتوسع مستقبلا. وتسعى تركيا لتثبيت أقدامها ضمن مشروعها «الميثاق الملّليّ - القوميّ» الذي يعتبر مناطق حلب وحتّى الموصل أراضي تركيّة ولها الحقّ في استعادتها انطلاقاً من المفهوم الذي تتحرّك وفقه والذي تدّعي فيه بأنّ «حدود تركيّا حيث يصل الجنديّ التركيّ»، وهذا يماثل في مضمونه المشروع الإسرائيليّ.
ثانياً: قامت أنقرة بتشكيل التنظيمات العسكريّة التركمانية، مثل السلطان مراد، محمّد الفاتح، سليمان شاه، وغيرها التي توالدت كالفطر السّام في أزقّة وشوارع شمال سوريا خاصة في حلب وضواحيها، ترفع الشعارات والأعلام التركيّة وتؤكّد ولاءها وانتماءها لأنقرة التي منحتهم الجنسية التركية. واستخدمت تركيّا الفصائل التركمانيّة بشكل مكثّف في عمليّاتها العسكريّة المباشرة، كما في عمليّة درع الفرات لاحتلال المناطق الممتدّة من جرابلس حتى إعزاز، وعملية غصن الزيتون لاحتلال عفرين، ومنحتهم امتيازاتٍ في مقابل محاربة الكرد.
ثالثاً: تتوقع الأمم المتحدة تداعيات سلبية خطيرة إنسانياً للغزو التركي على سكان شمال شرق سوريا التي تتميز بتنوعها العرقي، أقلها حدوث موجات نزوح جماعية لسكانها نحو العراق وداخل سوريا، وتكرار ما حدث في مناطق أخرى كعفرين وإعزاز من خلال الجيش التركي والميليشيات المتحالفة معه التي ارتكبت عمليّات القتل والخطف والنهب والاستيلاء على أموال وأملاك المدنيين.
رابعاً: سعت تركيا إلى ترسيخ وجودها في سوريا على المدى الطويل من خلال ربط تلك المنطقة بها إدارياً واقتصادياً مُشكلة كياناً سياسيّاً إداريا منفصلًا تحت حكم السلطة المزدوجة للمجالس المحلية اللامركزية والإدارة العسكرية التركية. والحقت بعض المناطق كعفرين تحت إدارة ولاية هاتاي التركية عبر تعيين حاكمها لموظّفين رسميين أتراك للعمل في الشؤون العسكرية والاقتصادية والإدارية بها، كما يتم تعيين القضاة والمحامين السوريين بالتنسيق مع وزارة العدل التركية، وتنشط فيها شرطة محلية مدعومة من تركيا وقوات عسكرية واستخباراتية تركية.
خامساً: يبدو أن أردوغان تورط بحماقة في صراع مفتوح مع الأكراد وامتدادهم في سوريا والعراق، ولا شك أن ذلك سينعكس سلبياً على العمق التركي اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ما ينذر بنطاق أوسع للعمليات العسكرية في اتجاه شرقي الفرات وبالتالي بقاء قواتها هناك لمدة أطول. كما أن المنطقة قد تشهد موجة حرب عصابات وفوضى شاملة تحمل عدة أطراف كالقوات الكردية وداعميها، ونظام بشار الأسد وحلفائه، وهناك مؤشرات أخرى عن عودة تنظيم داعش من جديد باستغلال الفراغ العسكري والأمني.
سادساً: في 16 أكتوبر وافق مجلس النواب بدعم من غالبية الأعضاء الجمهوريين على قرار يعارض قرار ترمب بالانسحاب ويدعو إلى استمرار الدعم للأكراد السوريين. ربما لا تزال هناك خطوات إضافية للكونجرس، وأبرزها قانون مكافحة الاعتداء التركي المقترح لعام 2019 الذي صاغه السناتور ليندسي جراهام وكريس فان هولين والذي يتضمن فرض عقوبات على المؤسسات والمسؤولين الأتراك والحظر المفروض على المعاملات العسكرية، وفرض عقوبات أخرى ثانوية بموجب قانون مكافحة خصوم أمريكا، فهل تواجهة تركيا مصير إيران اقتصادياً بعد تدشينها لاستراتجية أكثر عدوانية مع واقع متغير في المنطقة.
وأخيراً، كما قال الشاعر العربي «لكل داء دواء يستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها»، فتاريخ الحمقى طويل جداً، وسيمتد إلى ما لا نهاية، وهو غني بقصص الجهل والبلاهة والحقارة واللاّ إنسانية في مشهده السياسي، إلا أننا اليوم نعيش أوجهاً أخرى للحماقة كالتطرف والإرهاب والعنف لاستعادة حال الماضي والعبث في مصير الشعوب، والاستثمار في كل بيئة قاربت من التعافي أو تعاني من تحديات مركبة اقتصادية أمنية سياسية، وذلك من أجل وهم الامبراطورية أو النيوعثمانية.
* نائب رئيس أكاديمية ربدان
faisalalayyan@
وتزعم تركيا أنه من أهداف هذه العملية أيضاً توفير مكان آمن لإعادة توطين مليونين من العرب والتركمان والإيزيديين والكلدانيين السوريين ونقلهم من تركيا إلى منطقة شمال شرق سوريا. الجدير بالذكر أن بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية في تركيا الصيف الماضي وما يرتبط بها من ضغوط على سوق العمل والضغوط الاقتصادية الأمريكية، بات الأتراك يرغبون برحيل كل ما هو سوري وبأسرع وقت ممكن. كما استخدم أردوغان أزمة اللّاجئين كورقة ابتزاز ضدّ الدّول الأوروبيّة، وفي عام 2015 بالتحديد سهل وصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ، واضطرّت معه أوروبا إلى دفع حوالى 3 مليارات دولار إلى الحكومة التركيّة مقابل إغلاق الحدود أمام تدفّق البشر إلى عمق أوروبا.
وبفرض أجندتها السياسيّة تمكنت تركيا من تحويل الثّورة السّوريّة إلى أزمة دولية ثم حرب أهليّة وطائفيّة مذهبيّة، ما أدى لاستفحال موجة التطرّف، وتحول سوريا إلى ساحة تعجُّ بكافّة أشكال العناصر المتشدّدة القادمة من العالم. أردوغان اليوم يتربع على زعامة التنظيمات الإسلامية في العالم على مختلف توجهاتهم وفصائلهم، فهو يدعم تنظيم الإخوان ويقف معهم ضد الدولة الوطنية كما هو المشهد السياسي في مصر وليبيا وسوريا والصومال وتونس، ويدعم جميع الفصائل الجهادية والتكفيرية كداعش والقاعدة مهما ارتكبت من عمليات إرهابية عنيفة ومهما آمنت بالفكر المتطرف، فهي تمثل حصان طروادة نحو وهم زعامة النيوعثمانية أو الدولة العثمانية الجديدة. وبالمقابل تؤمن هذه الفصائل والتنظيمات أنه لا يمكن لقوة أخرى أن تقود «الجهاد المقدس» في سوريا غير تركيا والتي تمتلك قدرات عسكرية تؤهلها لذلك، بالإضافة الى دوائر مشتركة كثيرة تجمع الطرفين تحت سقف واحد.
هناك عدة آثار ونتائج خطيرة لهذا العدوان ومن أهمها:
أولاً: القوات التي دفعت بها تركيا إلى شمال شرق سوريا، ونبرة الخطاب السياسي المرتفعة الرافضة لتسليم المنطقة لقوات نظام بشار الأسد، بالإضافة إلى تعهد أردوغان بتنمية المنطقة، مجموعها يشير إلى وجود تركي مستمر في المنطقة وقابل للتوسع مستقبلا. وتسعى تركيا لتثبيت أقدامها ضمن مشروعها «الميثاق الملّليّ - القوميّ» الذي يعتبر مناطق حلب وحتّى الموصل أراضي تركيّة ولها الحقّ في استعادتها انطلاقاً من المفهوم الذي تتحرّك وفقه والذي تدّعي فيه بأنّ «حدود تركيّا حيث يصل الجنديّ التركيّ»، وهذا يماثل في مضمونه المشروع الإسرائيليّ.
ثانياً: قامت أنقرة بتشكيل التنظيمات العسكريّة التركمانية، مثل السلطان مراد، محمّد الفاتح، سليمان شاه، وغيرها التي توالدت كالفطر السّام في أزقّة وشوارع شمال سوريا خاصة في حلب وضواحيها، ترفع الشعارات والأعلام التركيّة وتؤكّد ولاءها وانتماءها لأنقرة التي منحتهم الجنسية التركية. واستخدمت تركيّا الفصائل التركمانيّة بشكل مكثّف في عمليّاتها العسكريّة المباشرة، كما في عمليّة درع الفرات لاحتلال المناطق الممتدّة من جرابلس حتى إعزاز، وعملية غصن الزيتون لاحتلال عفرين، ومنحتهم امتيازاتٍ في مقابل محاربة الكرد.
ثالثاً: تتوقع الأمم المتحدة تداعيات سلبية خطيرة إنسانياً للغزو التركي على سكان شمال شرق سوريا التي تتميز بتنوعها العرقي، أقلها حدوث موجات نزوح جماعية لسكانها نحو العراق وداخل سوريا، وتكرار ما حدث في مناطق أخرى كعفرين وإعزاز من خلال الجيش التركي والميليشيات المتحالفة معه التي ارتكبت عمليّات القتل والخطف والنهب والاستيلاء على أموال وأملاك المدنيين.
رابعاً: سعت تركيا إلى ترسيخ وجودها في سوريا على المدى الطويل من خلال ربط تلك المنطقة بها إدارياً واقتصادياً مُشكلة كياناً سياسيّاً إداريا منفصلًا تحت حكم السلطة المزدوجة للمجالس المحلية اللامركزية والإدارة العسكرية التركية. والحقت بعض المناطق كعفرين تحت إدارة ولاية هاتاي التركية عبر تعيين حاكمها لموظّفين رسميين أتراك للعمل في الشؤون العسكرية والاقتصادية والإدارية بها، كما يتم تعيين القضاة والمحامين السوريين بالتنسيق مع وزارة العدل التركية، وتنشط فيها شرطة محلية مدعومة من تركيا وقوات عسكرية واستخباراتية تركية.
خامساً: يبدو أن أردوغان تورط بحماقة في صراع مفتوح مع الأكراد وامتدادهم في سوريا والعراق، ولا شك أن ذلك سينعكس سلبياً على العمق التركي اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ما ينذر بنطاق أوسع للعمليات العسكرية في اتجاه شرقي الفرات وبالتالي بقاء قواتها هناك لمدة أطول. كما أن المنطقة قد تشهد موجة حرب عصابات وفوضى شاملة تحمل عدة أطراف كالقوات الكردية وداعميها، ونظام بشار الأسد وحلفائه، وهناك مؤشرات أخرى عن عودة تنظيم داعش من جديد باستغلال الفراغ العسكري والأمني.
سادساً: في 16 أكتوبر وافق مجلس النواب بدعم من غالبية الأعضاء الجمهوريين على قرار يعارض قرار ترمب بالانسحاب ويدعو إلى استمرار الدعم للأكراد السوريين. ربما لا تزال هناك خطوات إضافية للكونجرس، وأبرزها قانون مكافحة الاعتداء التركي المقترح لعام 2019 الذي صاغه السناتور ليندسي جراهام وكريس فان هولين والذي يتضمن فرض عقوبات على المؤسسات والمسؤولين الأتراك والحظر المفروض على المعاملات العسكرية، وفرض عقوبات أخرى ثانوية بموجب قانون مكافحة خصوم أمريكا، فهل تواجهة تركيا مصير إيران اقتصادياً بعد تدشينها لاستراتجية أكثر عدوانية مع واقع متغير في المنطقة.
وأخيراً، كما قال الشاعر العربي «لكل داء دواء يستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها»، فتاريخ الحمقى طويل جداً، وسيمتد إلى ما لا نهاية، وهو غني بقصص الجهل والبلاهة والحقارة واللاّ إنسانية في مشهده السياسي، إلا أننا اليوم نعيش أوجهاً أخرى للحماقة كالتطرف والإرهاب والعنف لاستعادة حال الماضي والعبث في مصير الشعوب، والاستثمار في كل بيئة قاربت من التعافي أو تعاني من تحديات مركبة اقتصادية أمنية سياسية، وذلك من أجل وهم الامبراطورية أو النيوعثمانية.
* نائب رئيس أكاديمية ربدان
faisalalayyan@